هكذا نكتب الشعر بذوق رفيع وفن راقِ وغوص واعِ في أعماق العربية...
هكذا نختار من التصوير والتشبيه ما يصل إلى القلب دون حجاب،وينقاد له العقل بقليل من التأمل،وتطرب له الروح بمجرد تلقيها له...
ألا تلمسون ذلك جلياً في قول الشاعر الذي دخل على زوجته ليلة زفافه:
رأيتُ الهلالَ ووجهَ الحبيب*****فكانا هلالين عند النظرْ
ولم أدرِ من حيرتي فيهما****هلالَ السما من هلال البشرْ
ولولا التورُّدُ في الوجنتينِ***وما راعني من سواد الشَّعَرْ
لكنتُ أظن الهلالَ الحبيبَ*****وكنتُ أظن الحبيبَ القمرْ
هكذا رأى الفنان وجه زوجته،وهكذا نتنافس ونُظهرُ البراعة في اقتناص التشبيه والتصوير الذي يجسد المعنى ويقربه، فنجعل الجامد والمجهول من المعاني معروفاً مألوفا،والمعروفَ منها مرئياً ماثلاً أمام العين...
كثيراً ما نسمع الواعظين يقولون لنا:إن المال زائل والدنيا فانية،ولكن أين هذا من تشبيه الشاعر لبيد:
وما المالُ والأهلونَ إلا ودائعٌ***ولا بدَّ يوماً أن تُردَّ الودائعُ
لقد شبه الشاعر المال والأهل بالودائع التي ستعود لمن أودعها لا محالة،فجاء المعنى ألصقَ في نفوسنا وأعمق أثراً من قول الوُعَّاظ،وإن كنا نرى أن الودائع في الحقيقة تُسترد ولا ترد،لأننا لا نمنحها عن طيب نفس وإنما يستردها الله الذي أعطانا إياها،ولكنَّ التشبيه لازال رائقاً بديعا له أثره ووقعه في الذوق الرفيع.
وإذا أردتم الإحساس الحقيقي برقص المتألم،فاقرؤوا قول الشاعر:
لا تحسبوا أنَّ رقصي بينكم فرحٌ**فالطيرُ يرقصُ مذبوحاً من الألمِ
ومن لايذكر حال الطير واضطرابه بعد ذبحه،إنه يبدو راقصاً متفنناً ولكنها رقصة الألم وصعود الروح والحشرجة...
هكذا تجدوننا نكتب الشعر ونربي أبنائنا عليه ونؤدبهم به....
هكذا ننهض بالذوق الأدبي... وندرك روعة الشعر وجماله ونهتدي لطريقة نسجه وسر فنيته...
ولو صُبَّ البحر في كأس مدامِ لوضعتُ جمال الشعر ورونقه في هذه الكلمات ولكن أنَّى لي هذا؟!
والله إنني لأتوق لهذا الجمال الشعري وأرقبه في أقلامكم مع هذه القطرة الأولى التي ألامس بها قرائحكم المتحمسة،فشدوا عزمكم والحقو بذلك الركب لعظيم، ذلك الذي أرسل الشعر غواصة فنية حكيمة في بحر العربية، يقودها المتنبي بحكمته، وطاقمُهُ المنشودُ بإبداعاته.
[center]